الجمعة، 18 مارس 2016

الازدواجية في الشخصية والسلوك 

(ج3)


بقلم دكتور \أيمن غريب قطب


هناك من يري إزدواج الشخصيّة عقليّ المنشأ : وهو إزدواج في التصرف ينشأ نتيجة لإزدواج في الإدراك أو في العقلية. هذا التصرّف المتناقض يصدر عن شخص معيّن نتيجة لوجود مفهومين متناقضين كحالة تكيفيّة لظرفين متباينين تقتضيهما الحالة الإجتماعيّة. الأمثلة على ذلك كثيرة منها : تعايش الفرد في مجتمعين
مختلفين في السلوك والعادات والثقافة، كمجتمع الحضر ومجتمع البادية، حيث قد تنشأ عند نفس الشخص مفاهيم متباينة طبقا للمكان الذي يتواجد فيه، يتصرف على أساسها بتصرفين متناقضين. فيسلك بعقليّة أهل البادية حينما يكون في البادية ويسلك بعقليّة أهل الحضر حينما يكون في المدينة. هذا الإنتقال من شخصيّة الى أخرى يحصل من دون جهد أو تكلّف وكأن المسألة تسير بشكل ميكانيكي وتلقائي، "!. الأمثلة كثيرة عن إزدواجيّة التصرف نتيجة لإزدواجيّة المفهوم، فمن الأمثلة الشائعة الأخرى التي نراها اليوم هو تصرفات بعض المغتربين الذين يعيشون في المجتمعات الغربية ويندمجون فيها وتتكون لديهم مفاهيم جديدة. فهم يتصرفون بالسلوك الغربي حينما يكونوا هناك، بينما ينتهجون سلوك البلد الأم حينما يزورون أوطانهم. لا أقصد هنا من يعيش في الغرب ولا يندمج في مجتمعاته، فهؤلاء يبقون محافظين على مفاهيمهم السابقة وتصرفاتهم تبقى كما هي سواء كانوا في بلدان الغرب أو في بلدانهم. فمن لم يتكون لديه مفهوم جديد لا يتصرف بتصرف جديد. - وهناك إزدواج الشخصيّة نفسيّ المنشأ : هو إزدواج في التصرّف ينشأ في منطقة الإحساس في مركب الشخصيّة نتيجة لتناقضات أو إختلافات إحساسيّة. التناقض في التصرف هنا ينطلق من تناقض الأحاسيس المتضادّة إتجاه هدف معين واحد، مثل المحبة والكراهية أو الرقة والعنف، أو بين الأحاسيس المتباينة المنطلقة نحو نفس الهدف، كالغيرة والمحبة أو الخوف والكراهية. حالات تناقض التصرف بسبب تناقض الأحاسيس أمر غير نادر والجميع شهد أو شاهد أو سمع عن حالات كهذه، فكم من مرّة يتساءل المرء مع نفسه عن تصرفات شخص ما: هل هذا الشخص يحبني أم يكرهني؟، وهذا التساؤل ينطلق بسبب التصرفات المتناقضة الصادرة عن ذلك الشخص التي تشير بأنه يتصرف بشكل متناقض وبسبب شعور متناقض مثل (الحب والكراهية). هذه الظاهرة ترجع في أسبابها، في الغالب، الى أمور تتعلق بوضع الشخص النفسي وحالته النفسيّة التي تتناقض فيها الأحاسيس. كما أن بعض تصرفات المرء قد تشير الى محبته لذات ما بسبب الخوف منها ثم ما يلبث أن يناقض ذلك بتصرفات تبيّن الكراهية والحقد لنفس الذات حينما يكون في مأمن منها أي أن تناقض التصرف هنا يحصل بسبب إختلاف الأحاسيس( الخوف والكراهية) . في مرات عديدة يأتي الحبيب بباقة ورد الى حبيبته تعبيرا عن الود والمحبة وما يلبث بعد برهة حتى ينقلب هذا الود الى نزاع وتخاصم ينبعان عن عوامل الغيرة، وهو مثال آخر عن تناقض التصرف بسبب إختلاف الأحاسيس(الحب والغيرة). الأمثلة كثيرة على تناقض الأحاسيس أو إختلافها التي يتبعها تناقض في التصرف. على القارىء الكريم أن يدرك بأن وجود أحاسيس متناقضة أو مختلفة ينتج عنها تصرّف واحد في نهاية المطاف لا يعتبر " إزدواجا" في الشخصيّة لأن من شروط الإزدواج هو وجود تصرفات متناقضة وليس تصرّف واحد رغم تناقض الأحاسيس أو إختلافها. كما أن من شروط الإزدواج نفسيّ المنشأ هو أن تكون التصرفات المتناقضة: متوالية، غير متباعدة بالزمن، متكررة،
وبإتجاه هدف واحد. - وإزدواج الشخصيّة التناقضي أو "تناقض الإدراك مع الإحساس": هنا يكون التصرف المتناقض ناشىء عن تناقض بين إدراك المرء وإحساسه، فمفاهيمه ومعرفته وإدراكه تحتم عليه سلوكيات محددة يستجيب لها ويتصرف على أساسها، لكن أحاسيسه تدفعه الى تصرفات تناقض القيم والمفاهيم التي يمليها الإدراك فيتصرف طبقا لذلك بمكيالين
مختلفين يناقض أحدهما الآخر. هذا يفسر السلوك المتناقض لدى من يصوم في النهار ويحتسي الخمر بالليل أو من يصلي ويسرق أو من يمارس الطقوس الدينية في المسجد أو الكنيسة ويقترف مؤاخذات جنسيّة قد تصل الى حد الجريمة. أي أن الموازنة الإجتماعية بين المحضور والممكن تختل عند هؤلاء لسبب أو لآخر مما تجعل المرء غير قادر على كبح جماح أحاسيسه الغريزية ، فيقوم بتلبية أو إشباع أو تفريغ هذه الأحاسيس بالصورة التي تخالف متطلبات الإدراك، وهذا ما يؤدي الى تناقض في التصرف الإجتماعي. خلافا لحالة إزدواج الإدراك فأن التناقض بين الإدراك والأحساس قد يؤدي الى حالة تأنيب الضمير أو ربما يمتد صراع النفس مع النفس الى درجة الإصابة بأمراض نفسية أو عصبية. هنا مرة أخرى يجب أن نقول بأن تناقض الإدراك مع الإحساس لا يمكن إعتباره إزدواجا في الشخصيّة مالم يتمخض عن تصرفين متناقضين أحدهما بوازع الإدراك والآخر بوازع الإحساس. الكثير منا يحصل عنده تناقض بين إدراكه وإحساسه في مواقف معينة، لكنه في النتيجة يتصرف بتصرف واحد تبعا لإدراكه أو تبعا لإحساسه وهذه حالة طبيعية وليست إزدواجا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق