مذهب الفرعونية وعبادة الفرد
(تأملات نفسية في تأثيرالتبعية المفرطة
والانصياع المدمر)
بقلم دكتور : ايمن غريب
يذهب البعض في مسار حياتهم الى الاتباع للآخرين وقد يتمادى في هذا الاتباع الى حد فقدان الذات او الهوية او الى الامعية وهي مسايرة الآخرين حيثما كان مسلكهم على الحق او الباطل ,فيتقمص ويقلد هؤلاء سلوك المتبوع بكل رضا بفكره وثقافته مهما ترتب على ذلك من آثار تلك التبعية أيضاً .والمتبوع صنفان، إما متبوع صالح كأنبياء الله عليهم السلام والصالحين، وإما متبوع فاسد كفرعون و الدكتاتوريين والفاشيين والمفسدين في الارض وان تعددت مذاهبهم وسبلهم, فنبي الله نوح عليه السلام مثلا دعا أتباعه إلى
الحق فنجا ونجوا معه؛ ? ( فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ ) [الشعراء: 119، 120]، أما فرعون فقد دعا أتباعه إلى الباطل فهلك وهلكوا معه؛ ( فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ) [القصص: 40]، فمصير التابع متعلِّقًا بحال المتبوع صلاحاً وفساداً.
ولا يظن احد ان الخطأ في هذه الحالة يختص بالمتبوع بل هو مشترك بينهما كل من حيثيته وجهته أما خطأ المتبوع فواضح بالدعوة الى الباطل و خطأ التابع يكمن في الإقدام على إتباع الباطل بإرادتة وإختياره , لذا حكت لنا الآيات الكريمة العلاقة بين التابع والمتبوع كل يحاول أن يتبرأ من الآخر ويتملص من خطئه بإسقاطه على الآخر قال تعالى :{ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ } البقرة (166) وقد تبرا المتبوعين من تابعيهم لما رأوا الخيبة والذل في طريق الباطل وبالمقابل يتمنى التابعون فرصة البراءة من إختيارهم الخاطيء لمتبوعيهم {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}البقرة (167)
إذاَ تقع مسئولية إختيار المتبوع على التابع وهو أمر لا خلاف فيه , وربما في زمن كانت هذه المسئولية سهلة يسيرة لكن في زمننا اليوم وهو عصر تزاحم الوجودات الثقافية والنزاعات الفكرية يبدو الأمر في صعوبة بالغة .
وقد نشأ اهمال من الجانب السلوكي والأخلاقي بل والفكري من حيث إختيار المتبوع وهذا ناشيء من العرض الكمي والنوعي لمختلف الثقافات وبعناوين مختلفة فتارة نرى الراية الإنسانية تحاول أن تمسح بعض النقاط من الجانب الديني والأخلاقي وتارة يكون الدور للراية العلمية لإبعاد نظرية الأخلاق الإسلامية عن الفكر الشبابي وتارة
الراية الحضارية وغيرها مما أوقع الكثير في دوامة سوء الإختيار الى حد هجران المباديء العامة حتى في ما يخص العرض والشرف من الإختيارات .
ومن أمثلة ذلك تبعية الشباب المؤمن للثقافة الرياضية بحيث تأخذ لها مساحة أكثر مما تستحق في العامل الزمني والفكري للتابع على حساب مساحات البرامج الأخرى في الجانب السلوكي والأخلاقي ,ومنها إنهماك المرأة المسلمة في محاكاة الأزياء والمواقف في الملبس والمأكل وطريقة الكلام والضحك واستخدام مصطلحات بعيدة عن الذوق المجتمعي والاسلامى وبالتالي إنشغال الذهن بسطحيات الأمور وتغليبها على المباديء والعادات وعلى العفة والستر أحياناً .
وقد ساهم في تشر ثقافة التبعية السلبية في مجتمعنا إنتشار ثقافة التغريب في المدارس وفي الجامعات الكثيرة التي من المفترض أن تكون منشأً لإنعاش ثقافتنا وبرامجنا الدينية والحضارية والاخلاقية وسلوكنا الصحيح بتبعية النظرية الإسلامية في تأسيس الحياة لكنها صارت مرتعاً لنقد الثقافة الإسلامية وخلق الإشكالات على الثوابت الأخلاقية والشرعية مما أدى بضعاف الفكر الى إحلال ثقافات أخرى صارت بعد ذلك جميع مفرداتها ثوابت حياتية لهم وصار العدول عن الأداب الدينية والمسائل الخلقية أمر متعارف بل متنافس فيه ونتج عن ذلك انحلال في المنظومة الأخلاقية من حيث الظاهر ومن حيث الباطن وأصبحت الأسر المحافظة المتعففة تتردد من زج بناتها وسط كم من المحاذير بلا امان وسط تحكمه برامج فكرية تتطارد فيما بينها لتحصيل كم من الأنصار والتابعين الهامشيين والمتغربين .
ان الاتباع السلبي يولد لدى الفرد هذه السلوك الذى يجعل منهم يألهون بعض الاشياء او بعض الاشخاص او يقدسونها فكريا وثقافيا واجتماعيا دون ان يدروا في عقولهم الباطنة ويجعلون من انفسهم مدافعين عنها الى اقصى مدى وكهنة من كهنة هذا المتبع الذي قد يستغل سذاجتهم في التأله عليهم ويريهم مايراه هو فقط كما قال فرعون لقومة عندما اراد ان يضلهم ويمنعهم من تصديق منطق وصحة كلام الرجل
الصالح الذي يدعوهم الى الحق فقاطع كلامه وبين سبب عزمه على قتل موسى عليه السلام بأنه ما عرض عليهم ذلك إلا لأنه لا يرى نفعا إلا في قتل موسى ولا يستصوب غير ذلك ويرى ذلك هو سبيل الرشاد ، وكأنه أراد ألا يترك لنصيحة مؤمنهم مدخلا إلى نفوس ملئه خيفة أن يتأثروا بنصحه فلا يساعدوا فرعون على قتل موسى .
ويقول تعالى مخبراً عن فرعون وتمرده وعتوه، إنه جمع قومه فنادى فيهم متبجحاً مفتخراً بملك مصر وتصرفه فيها: { أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي} ؟ { أفلا تبصرون} ؟ أي أفلا ترون ما أنا فيه من العظمة والملك؟
يعني موسى وأتباعه فقراء ضعفاء، وقوله: { أم أنا خير من هذا الذي هو مهين} بل أنا خير من هذا الذي هو مهين، (بل) يعني فرعون أنه خير من موسى عليه الصلاة والسلام، وقد كذب في قوله هذا كذباً بيناً واضحاً، ويعني بقوله { مهين} حقير، لا ملك له ولا سلطان ولا مال، { ولا يكاد يبين} لا يكاد يفصح عن كلامه عييّ حصر، او لا يكاد يُفْهم، { فاستخف قومه فأطاعوه} أي استخف عقولهم فدعاهم إلى الضلالة فاستجابوا له { إنهم كانوا قوماً فاسقين} .
قال اللّه تعالى: { فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين} ، قال ابن عباس: { آسفونا} أسخطونا، وعنه: أغضبونا ، روى ابن أبي حاتم، عن عقبة بن عامر رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (إذا رأيت اللّه تبارك وتعالى يعطي العبد ما يشاء وهو مقيم على معاصيه فإنما ذلك استدراج منه له) ثم تلا صلى اللّه عليه وسلم: { فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين}
أخرجه ابن أبي حاتم عن عقبة بن عامر مرفوعاً"". { فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين} وقوله سبحانه وتعالى: { فجعلناهم سلفاً ومثلاً للآخرين} { سلفاً} لمثل من عمل بعملهم، { ومثلا} أي عبرة لمن بعدهم.
ويقول المولى سبحانه وتعالى : (إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار كدأب آل فرعون ) فالكافرين لا تغني عنهم الأولاد ولا الأموال بل يهلكون ويعذبون ، كما جرى لآل فرعون ومن قبلهم من المكذبين للرسلا والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديدالعقاب فقد كذبوا وشوهوا وانكروا ما جاءوا به من آيات الله وحججه.
وتعد الفرعونية مذهب فى الإستبداد تدرج فيه الفرعون من التحكم فى رعيته بما فيهم خاصته إلى التأله عليهم واستعبادهم حتى قال:(مااريكم إلاما ارى)والإستبداد قرين لفساد الذى من سماته قوله تعالى(يستضعف طائفة منهم يذبح ابناءهم ويستحيى نساءهم إنه كان من المفسدين) وهى سمات عامة غير مرتبطة بحين او اوان ولعل ما جرى من الإستقواء بالشرطة والجيش والفلول والمفسدين على بقية الشعب و المجازر التى وقعت لفئات من الشعب فى في اماكن كثيرة و ايضا ما يفعل من إنتهاك حرمة الحرائر انما هو دليل على ان الفرعونية ظاهرة غير مرتبطة بزمان او مكان .
ان الديمقراطية، والليبرالية، والرأسمالية، والشيوعية، والعَلمانية، كلها مذاهب سياسية قامت على أساسها أنظمة حاكمة منها العادلة ومنها الظالمة، ومنها من خلطت عملا صالحا وآخر سيئا.
ولقد تبلورت هذه المذاهب السياسية في مذهب كلي وان تنوعت واجهاته، هذا المذهب هو المذهب الفرعوني، ورائد هذا المذهب منذ القديم والمنظر له هو فرعون مصر الذي كان يقول بكل جرأة بل ووقاحة : «أنا ربكم الأعلى». ولقد استخف قومه، وسفه أحلامهم فأطاعوه، وصاروا له عبيدا يعبدونه من دون الله تعالى.
هذا المذهب السياسي القديم المغرق في القدم اجتمع حوله معظم الساسة في أنحاء العالم، فمنهم من يزعم انه ديمقراطي أو ليبرالي أو عَلماني أو غيرها من المذاهب السياسية التي تصب في النهاية في مصب واحد وتدير البلاد والعباد بمنهاج الإله والعبيد.
وفي الوقت الذي يحاول فيه كثير من الناس الشرود عن عبادة إله واحد لا شريك وهو الله سبحانه وتعالى، ويتعللون في شرودهم بالعلل الكثيرة نراهم يستسلمون للطغاة الذين يدعون الألوهية بلسان حالهم أو مقالهم.
فعندما يحكِّم بعض الناس الديمقراطية والليبرالية والعلمانية في حياتهم، ويعطونها الولاء والخضوع، ويستنكرون على من يحاول الخروج عليها، فإنهم بالمقابل يشجعون من يخرج على الدين، ويستعصي أو يعصي أوامره ونواهيه ويعتبرون ذلك ديمقراطية وليبرالية وعلمانية.
وحينما قال الحق تبارك وتعالى عن فرعون وما يمثله عند كثير من الناس: «فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون» (يونس/ 92)، عندما قال الحق تبارك وتعالى ذلك كان يشير اشارة واضحة الى ان فرعون وما يمثله من استبداد سياسي، وطغيان عقدي،
سوف يكون صالحا لكل زمان ومكان، وان هذا المذهب السياسي العدواني على حق الله تعالى في الوحدانية والعبودية سوف يحيا على أيدي الطغاة والمستبدين ليكون على فرعون الأول كفل من كل استبداد يحدث وفق هذا المنهج أو من خلال هذا المذهب السياسي.
انه الاستخفاف بالشعوب وعدم الاهتمام بمصالحهم، والنظر الى هذه المصالح لا باعتبارها حقوقا يجب الوفاء بها، وان الحاكم مسئول عنها، بل صدقات يتصدق بها هذا الحاكم أو ذاك، يستطيعون منعها إذا شاءوا، ويستطيعون منحها إذا أرادوا، وان ليس للشعوب حقوق مصونة يجب على الحكام الالتزام بها وعدم التفريط فيهاولقد وصل الحال ببعض من
يملكون زمام الامور في البلاد الى القول ان ما يعطونه للجماهير هو هبة وعطية ورحمة من عندهم يمكنهم ان ينزعوها في اي وقت عقابا لمن تسول له نفسه بالعصيان وكأن المال ماله والحكم حكمة وكل شئ ملك يمينة !!!! اليس هذا يضاهى قول فرعون ما اريكم الا ما اري وما اهديكم الا سبل الرشاد.
حين تستكين الشعوب، وتقعد عن القيام بواجبها من اصلاح نفسها، وارغامها على ما تكره من فضائل الاخلاق والاعمال وتنتظر العالم ليتغير من أجلها، فهي تشجع حكامها على الاستبداد، وعلى الاستخفاف بها، وان يضعوا أنفسهم في منزلة لم يحلموا بها، ولم تخطر لهم على بال.
وبسبب استكانة الشعوب وتقاعسها عن القيام بواجباتها استمرأت هذه الاستكانة وصارت جزءا من حياتها فلا تشعر بالظلم ولا تحدثها نفسها بالثورة على الظالم، ان ان الظلم نفسه لا يولد ثورة، ولكن الإحساس بالظلم هو الذي يولد ثورة، وهذا عمل القادة الثوار، ودورهم في إحداث التغيير.
ولما طال بفرعون وباستعلائه الأمد أجرى الله تعالى عليه سننه التي لا تتخلف ولا تتبدل، فأغرقه في اليم ونجّى بدنه
ليكون لمن خلفه من الطغاة آية وعبرة وعظة، ويا ليت الطغاة والمستبدين فهموا درس فرعون واستفادوا من قصته لوفروا على شعوبهم الآلام الكثيرة، والتخلف الذي صار سمة من سماتهم، كأنهم ولدوا هكذا متخلفين، ولم يكن لهم عهد بالتقدم والحضارة والعمران.