الآثار الشخصية والاجتماعية للحج على الفرد والمجتمع
بقلم دكتور: ايمن غريب قطب
الحج شحنة روحية كبيرة، يتزود بها المسلم، فتملأ جوانحه خشية وتقى لله، وعزماً على طاعته، وندماً على معصيته، وتغذى فيه عاطفة الحب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ولمن عَزَّرُوهُ ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، وتوقظ فيه مشاعر الأخوة لأبناء دينه في كل مكان، وتوقد في صدره شعلة الحماسة لدينه، والغيرة على حرماته ,حديثنا هنا عن الآثار الشخصية والاجتماعية لما يلاحظ من وجود فجوة او هوة كبيرة بين العبادة او المناسك او العلم والعمل ،وبين المعاملات الشخصية والاجتماعية ما يتلقاه الناس من سلوك فعلى , وذلك إما في مجال التعليم أو عن طريق خطب الجمعة أو المحاضرات أو غيرها من مجالات التلقي وبين التطبيق ، و يُلاحظ ضعف أو تلاشي آثار العبادات على كثير من المؤدين لها، حتى أصبحت العبادات جسداً بلا روح عند كثير من الناس ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
وللحج منافع كثيرة، ذكرها الله تعالى في قوله: { وأذّنْ في الناسِ بالحَجِ يأتوكَ رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فَجٍّ عميق* ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسمَ الله } فهو إضافة لكونه فريضة وشعيرة من شعائر الإسلام ، له فوائد عديدة ونركز هنا على الجانب الشخصى والاجتماعى او التطبيقى التربوي لها.
فعلى الجانب الشخصي فان الحج تدريب على ركوب المشقات، ومفارقة الأهل والوطن، والتضحية بالراحة والدعة في الحياة الرتيبة بين الأهل والصحاب، إلى وادٍ غير ذي زرع لا يصلح مصطافاً ولا متربعاً، وذلك تربية للمسلم على إحتمال الشدائد، والصبر على المكاره، ومواجهة الحياة كما فطرها الله بكل مشقاتها وحلوها ومرها ,وحياة الحاج أشبه بحياة الكشاف في بساطتها وخشوتها، حياة تَنَقُلٍ وارتحال، واعتماد على النفس، وبُعْدٍ عن الترف والتكلف والتعقيد، الذي يناسب حياة الخيام في مِنّى وعرفات,وقد تجلّت هذه الحكمة حين جعل الله الحج دائراً مع السنة القمرية، فأشهر الحج المعلومات تبدأ بشهر شوّال، وتنتهي بذى الحجة، وهي أشهر تأتي أحياناً في وقدة الصيف وأحياناً في زمهرير الشتاء، ليكون المسلم على استعداد لتحمل كل الأجواء، والاصطبار على كل ألوان الصعوبات, والمسلم حين يحرم بالحج يظل فترة إحرامه في سلام حقيقي، مع من حوله وما حوله، فلا يجوز له أن يقطع نباتاً أو يعضد شجرة، كما لا يجوز له أن يذبح حيواناً صاده غيره له، أو يرمي هو صيداً في الحرم، أو خارجه قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) (المائدة/ 95)، (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) (المائدة/ 96) ,بل لا يجوز للمحرم أن يحلق شعر نفسه أو يقص ظفره، حتى يتحلل من إحرامه فيقص ويحلق أو يقصر فهو في ذلك تطبيقاً عملياً للسلام وتدريباً عليه مع النفس والآخرين, ومع ذلك فإن رحلة الحج على ما فيها من مشقة وتعب وغربة وصعوبات، تعتبر حلم كل مؤمن لما يجده من الراحة النفسية الكبيرة بعد الحج بدليل اننا إذا سألنا أي حاجّ قدم حديثاً من الأراضي المقدسة وقلنا له: ما رأيك بالعمل الذي قمتَ به، فسيقول على الفور: أتمنى أن أحج إلى بيت الله كل عام!! فما هو سرّ هذه الراحة النفسية التي يلمسها كل إنسان ذهب لأداء هذه الفريضة؟ والجواب هو أن هذه العبادة إذا أداها الإنسان بشكل صحيح فإنها تقوم بعملية تفريغ الشحنات السلبية وإعادة شحن بالشحنات الإيجابية ، يقول عليه الصلاة والسلام: ( تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب دون الجنة ) رواه ابن حبان في صحيحه. لكون كله .
وعلى الجانب الاجتماعي فمن آثاره التماسك والتوحد بين المسلمين وجعلهم كلهم امة وجسدا واحدا ,والحج يتيح للمسلم أن يشهد أعظم مؤتمر سنوي إسلامي، مؤتمر لم يدع إليه ملك أو رئيس أو حكومة أو هيئة، بل دعا إليه الله العلي الكبير الذي فرض إقامته كل عام على المسلمين,فهناك يجد المسلم إخواناً له من قارات الدنيا الخمس، اختلفت أقاليمهم، واختلفت ألوانهم، واختلفت لغاتهم، وجمعتهم رابطة الإيمان والإسلام، ينشدون نشيداً واحداً: "لبيك اللّهم لبيك".إنّ هذا المؤتمر له أكثر من معنى، وأكثر من إيحاء، إنّه يحيي في المسلم الأمل، ويطرد عوامل اليأس، ويبعث الهمة، ويشحذ العزم.
إنّ هذا التجمع يوحي دائماً بالقوة، ويوقظ الآمال الغافية. والذئب إنما يأكل من الغنم الشاردة,إنّ هذا المؤتمر أعظم مُذَكِّر للمسلم بحق أخيه المسلم: وإن تباعدت الديار، وأعظم مُذكِّر بأخوة الإسلام، ورابطة الإيمان, وفي هذا المؤتمر ينصهر الجميع في بوتقة واحدة تذوب في حرارته النزعات القومية والوطنية، وتختفي فيه كل الشعارات والجنسيات إلا شعاراً واحداً (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) وحيث تتلاشى الفروق بين الجميع ويتذكرون جميعا يوم الحشر والميعاد وتلغي الفروق كافة بين الفقير والغني، بين الشحاذ والأمير، إلغاءً تاماً, ذلك أن كل حاج مسلم يلبس – خلال أداء تلك الفريضة المقدسة – الثياب البسيطة نفسها، والشعائر التي يتعين على الحجاج أداؤها، من مثل الطواف ببيت الله "الكعبة" توقظ في نفسه ذكرى الأنبياء والآباء العظام الذين عاشوا في المواطن نفسها خلال العصور السالفة, إنها تعيد إلى الحياة أعمال إبراهيم، مؤسس الدين الخالص، وأعمال ابنه إسماعيل وزوجته هاجر. وهي توقظ في الحاج النزعة إلى تقليدهم في تعاطفهم وفي خضوعهم لمشيئة الله".
إن زيارة المسلم للبيت الحرام ومسجد رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ولمنازل الوحي وأماكن البطولات الإسلامية تمد المسلم بطاقة روحية عظيمة تزيل عنه كروب الحياة وهمومها وتغمره بشعور عظيم من الأمن والطمأنينة والسعادة , لقد قام علماء النفس بالعديد من التجارب بهدف اختبار السعادة عند أشخاص مختلفين، فوجدوا أن السعادة الكبرى لا تتحقق بالمال أو النساء أو الجمال أو غير ذلك من زينة الدنيا، إنما وجدوا أن السعادة تكون أكبر ما يمكن عندما يسعى إنسان نحو هدف ويحاول تحقيقه ثم يتحقق هذا الهدف أخيراً, والمؤمن في تلهف دائم لزيارة بيت الله ومسجد رسوله، وتجد في داخل كل مؤمن حنيناً لهذا البيت العتيق، ورحلة الحج هي تحقيق لهذا الحلم أو الطموح، ولذلك فإنه يعطي المؤمن سعادة كبرى لا يمكن أن يشعر بها غيره.
بالاضافة الى ما تربيه وتنميه رحلة الحج في المسلم، بما فيها من متاعب وصعاب وإجهاد، من فضيلة الصبر وتمرنه على تحمل كل المضايقات وكيفية الاعتماد على نفسه لحل مشكلاته، فضلا عن ضبط نفسه وسلوكياته وصرفه عن الانفعالات المرفوضة بما فيها من عصبية وسباب,والخروج من روتين الحياة والعادات السيئة مثل الجدال، فهذه العادة السيئة كثيراً ما تورث الخصام مع الآخرين وتسبب ضياع الوقت والجهد، فمن أسس الحج الصحيح تجنب الجدال والمناقشات العقيمة إلا المجادلة بالتي هي أحسن، وهذه قليلة في عصرنا هذا بالاضافة لأمراض القلوب من كراهية و حقد وحسد وضغينة وغير ذلك,. إذن الحج هو تمرين على رياضة الامتناع عن الجدال ومعاملة الناس بالحسنى ، يقول تعالى:
{ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ...(197)}(البقرة).
وأن أفضل ما يعود به الحاج من رحلته المباركة هو حالة الصفاء النفسي والتوازن المزاجي التي سيطرت عليه خلال رحلته منذ خروجه من بيته وحتى عودته، فالإنسان في هذه الرحلة يتخلص من كل همومه ومشكلاته ومشاغله حتى ولو كان هذا التخلص مؤقتا خلال الرحلة فقط، وهذا يساعد الإنسان على أن يعيش حالة نادرة من الصفاء والراحة النفسية تريحه من كثير من الهموم والمتاعب النفسية التي تسببها ضغوط الحياة المستمرة و هو جهاد للنفس يجتهد فيه الإنسان أن يهذب نفسه ، عن الحسن إبن على ( رضي الله عنهما ) : أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني جبان وإني ضعيف ، فقال صلى الله عليه وسلم: ( هلم إلى جهاد لا شوكة فيه : الحج ) أخرجه الطبراني في الكبير الجزء الثالث ص 147 .