(مجتمع الذئاب والثعالب/ والخراف والخنازير)
(ج 2)
بقلم دكتور : أيمن غريب قطب
هناك وفرةٌ لا حدود لها من جانب وفقر مدقع هو حظ المستضعفين في الأرض. تنمية بلا حدود. نهبٌ أهوَجُ لخيرات الأرض ومواردها وتبذير لما لا يُعوَّض منها، وكلها لا تعوض، في دوامة الإنتاج والاستهلاك، الاستهلاك للإنتاج. لا تدور عجلة المعامل ومختبرات الاختراع، ومالية الدولة، وتوازن الاقتصاد العالمي، وموازين المدفوعات والمبادلات، وحساب التجارة، وعافية النقد،واستقرار العالم إلا على وتيرة الإنتاج والاستهلاك في دورة محمومة حُداؤُها الشيطاني الإشهار والدعاية بالكلمة والصورة، بالكذب والصدق.
)فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ. فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ( (سورة الأنعام، الآية: 45). هكذا مَكْرُربك! هكذا أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة، إن أخذه أليم شديد! أخذتهم قدرتُه بَسرّاء الحضارة المصنَّعة المفتوحة الأبواب صبّا بلائيا وافراً، وأخذتنا، في جملة المستضعفين في الأرض، بضراء التخلف والعجز والفقر والتبعية في ضروريات الغذاء، وضروريات التمويل، وضروريات العلوم، وضروريات التكنولوجيا، وضروريات الخبرة، وضروريات السوق لمنتجاتنا الهزيلة، وضروريات المساعدة الفنية، وضروريات الوحدة اللازمة ليكون لنا حجم في العالم، واستقلال، ووزن، ومال وحضارة.
قدرُ الله وبلاؤُه. العالم كله في قبضته، والبأسُ بأسُه، والأخذ أخذه. ثم تظالم العباد وقد دعوا دعوة الرفق والهداية أن لا يتظالموا، وزجروا عن الظلم وعن الترف. مستكبروهم ومستكبرونا، مترفوهم ومترفونا، تحالف أولئك مع هؤلاء هو السبب في تنحيتنا على هامش مجتمع الوفرة والإنتاج والرفاهية والوَجد والغنى والقوة.
لا نقصد بوصف الترف وعاهته، وإخلاله بتوازن العالم، وتهديده للسلام العالمي، وسحقه للشطر الأكبر من الإنسانية إلا مساهمة في "ذم الدنيا" كما عقد الغزالي في إحيائه فصلا طويلا لذم الدنيا من وجهة نظر السالك إلى الله الفردِ في القرن الخامس الذي كان الفتح الإلهي فيه للناس وعلى الناس غير ما هو الآن.
بل أقصد، بعد الذم، التأكيد على ضرورة محاربة الظلم والترف وما يعشش في ثنايا المجتمع المحقور المذل المفقر من بلايا تهدد السلام في العالم والسلام الاجتماعي في كل قطر قطر. نذم الترف و"الدنيا" لا لنهرب من "الدنيا"، بل لنخوض غمرات الجهاد ليقوم في الأرض العدل، والكفاية، والأخوة بين الناس، يشمل برنا كل ذي كبد رطبة في الأرض.
ثم أقول مستعينا بالله العلي القدير:إنها لُجَّة لابد من خوضها، وامتحان لا مفر منه، ورجولة لا عوض عنها. ضرورة حيوية الموتُ المحقق لأمتنا من دونها، أن نتحرر من رِبقة الحكم الجائر، وأن نَبنيَ القاعدة المادية للعدل والبر بالتصنيع، والإنتاج، ودخول السوق العالمية، وامتلاك زمام العلوم والتكنولوجيا، والسبق إليها، والتسلح الدفاعي على أعلى مستوى. كل ذلك ضروري لحياتنا المادية، وبقائنا كأمة، ووحدتنا، وقوتنا على حمل رسالة الله إلى العالم المفتون أيّا ما كان بلاء الله لنا وعليه.
ونحن معشر السالكين على محجة الجهاد، بلاؤنا بإطعام الجائع ودعوة الغافل، ورفع الصوت غضبا لله، ومخالطة الناس، وتنظيمهم في صف الجهاد، مع دوام ذكر الله، والاستمساك بحبل الله، والاعتصام به لتوحيد الأمة بعد طرد المستكبرين والمترفين من سدة السلطان. وبلاء الحاجة والفاقة والتخلف، فإننا كالأيتام في مأدبة اللئام الحضارية الوفرية، باعث مادي مضايق مُلح قابض على الحلقوم يجرنا بسلاسل الضرورة للوحدة وما تقتضيه ونقتضيه من التصنيع والفاعلية في الأرض.
على المدَى البعيد يجب أن يكون لنا أفق إسلامي، وهدف إسلامي، للحفظ العام من آفة الترف. التحفظ الفردي والزهد والورع روح المسألة لا ريب، وكم من دروس وفِيَّة، وأحوال سنية للسادة الصوفية في هذا المضمار. لكن الحفظ العام للأمة من آفة الترف وما تهدد به رَجعته من عودة الاستكبار، والانتكاس والارتكاس، لا يضمنه إلا التقلل المنهاجي المبرمج، المدْرَج في منهاج التربية، ومنهاج الاقتصاد، ومنهاج الدولة، ومنهاج الأخذ والعطاء، ومنهاج النفقة اليومية، ومنهاج السوق، ومنهاج الحياة الدنيا جميعا. نفعل ذلك متى قدرنا، متى أقدرنا من له القدرة سبحانه، فإنه لا حول ولا قوة إلا به. وإنَّ للتكنولوجيا لجِماحا، هي القائدة السائقة الحاكمة. وإن لدورة الإنتاج والاستهلاك لمنطقا متلاحقا، وإن لبلاء الله وقدره لَحَتمية لأمر هو بالغه سبحانه.
التقلل تحكّم إرادي في الاقتصاد ومصارف الأموال وموارد الدولة. التقلل انضباط لا تخضع له إلا مقهورةً أغلبيةُ النفوس البشرية النهمة بِنَهَم البطن ونهم الفرج ونهم الفَخفخة ونهم التكاثر في زينة الحياة الدنيا.
التقلل زينة الله والطيبات من الرزق نتناولها من يد المنة الإلهية بالشكر والورع في حدود الحلال والحرام والمباح والمكروه.
التقلل غير القلة. إذ القلة فقدٌ يلهي عن الله. القلة فقر هو أخو الكفر. وقد تعوذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من القلة فقال: "اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقلَّة والذلَّة. وأعوذ بك من أن أظلم أو أُظلم". رواه أبو داود والنسائي وابن حبان عن أبي هريرة بإسناد حسن.
التقلل سنة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا". أخرجه الشيخان عن أبي هريرة. والقوت ما يكفي دون زيادة .
التقلل إمساك على زمام النفس لكيلا تجتلبها المغريات. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد هذه المنزلة، أوصى بالتقلل حتى يكتفي المؤمن في خاصة نفسه بمثل زاد الراكب، فكان صحابته مثالا للزهد والتعفف والبَذَاذَةِ التي هي من الإيمان كما جاء في الحديث. البذاذة عكس الترفه في الزينة.
التقلل تضييق إرادي على النفس في الكماليات لا في الضروريات، ليوفر العبد من ماله ومن نفقته، ما به يصل الرحم ويحمل الكَلَّ ويعين على نوائب الحق ويصطنع عند الله عوائدَ البِر.
وإن التوفير والاقتصاد في النفقة لواجب جهادي على كل مؤمن ومؤمنة في ظل دولة القرآن لجمع رأس المال الضخم الذي تحتاجه الأمة للتصنيع.
التقلل غير الشح، هو خلق محمود، وتعبير عن الهمة العالية، همة العابرين لمنازل الدنيا يحدوهم الشوق إلى ما عند الله. التقلل عدل وبر واعتدال وعطاء من النفس بواسطة العطاء من النفقة. هو اقتصاد قوله تعالى: )وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً( (سورة الإسراء، الآية: 29). هو نظام قوله تعالى: )كُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ( (سورة الأعراف، الآية: 29). ويدمِّر سبحانه وتعالى الفاسقين المترفين.
التقلل إيثار للمحتاج بالفضل مما عندك، فإن لم يكن لك فضل فاعمل واتعب واكسب لتعود ببرك وإيثارك على من لا قدرة له على الكسب. حبُّ المساكين كان دعوةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حب لا معنى له إن كان حبا عذريّا، لا معنى له إلا بالبذل من الفضل، لا معنى له إلا بالبر والمواساة.
ويقول احد العلماء رحمه الله: "إن الإسلام ليصرخ في وجه الإقطاع الفاجر ووجه الرأسمالية الظالمة، وإن الإسلام ليلعن تلك الأوضاع التي تفرق الناس: أقلية مستغلة تملك كل شيء، وغالبية محرومة لا تملك شيئا. إن الإسلام يقر التفاوت بين الناس. لكن أي تفاوت؟ إنه التفاوت القائم على الامتياز في الجهد والامتياز في العمل والامتياز في المشقة". أنه ينأى بالإسلام عن أن يكون أحد مصادر الصراع الطبقي والتفاوت الحاد في مستوى معيشة المواطنين.
وعلينا الآن أن نعترف أن المجتمع المصري هو نموذج صارخ للطبقية، ليست فقط الاقتصادية ولكننا نستطيع أن نقر أن هناك إحساسا بالتميز العرقي لدى طبقة معينة وهم من يملكون السلطة والثروة ويرون أنهم أرقى من عامة المواطنين. وعلينا أن نوقن من ضرورة الاعتراف أن الصراع الطبقي لابد أن يكون أحد محددات ومرتكزات الثورة المصرية. وعلينا أيضا الاعتراف أن الحديث عن العدالة الاجتماعية – التي كما أرى هي مرحلة لاحقة للقضاء على استغلال الطبقات التي تمتلك السلطة والثروة – هو ترف في ظل منظومة الفساد المطلق والاستغلال الهائل لمعظم الشعب الموالأجدى الآن أن نؤمن أن أحد أهم روافد الثورة المصرية هو الصراع الطبقي بين غالبية المصريين وبين المجموعة التي تحكم مصر منذ عشرات السنين واستطاعت مستغلة الفساد المطلق المتنامي والإحساس الزائف بالتميز أن تسيطر ليس فقط على الثروة والسلطة، ولكنها باستخدام أدوات القمع وأدوات صناعة الوعي بتدجين الطبقة الوسطى وهي الطبقة القادرة على إحداث تغيير نوعي والحفاظ على المقومات الثقافية والاجتماعية للمجتمع، وهي القادرة على إعادة تأهيل الطبقات الأدنى وتطويرهم والقادرة على كبح جماح الطبقات المستغِلَّة فتستطيع كبح جماح التفاوت الطبقي الهائل.
ومع انهيار الطبقة الوسطى في المجتمع المصري سواء بانبطاحها لطبقة المستغلين في سبيل مصالحها، أو بانهيارها تحت وطأة الفساد والقهر، اندفع التفاوت الطبقي والاستحواذ على السلطة والثروة إلى مستويات غير مسبوقة، أصبح الوضع في مصر غير محتمل ووجب إعادة بناء المجتمع؛ لا عن طريق إصلاح ما به من فساد لوصوله إلى مستوى من التوغل البنيوي يستحيل معه الإصلاح؛ ولكن عن طريق بناء ثورة حقيقية اصولها الاسلام والعدالة الاجتماعية .
لقد راهن الانقلابيون على بنية تيارات الإسلام السياسي الإصلاحية وقبوله بالأمر الواقع، وكانت مفاجأته الكبرى ومن معه من أصحاب الريموت كونترول أنهم لم يفعلوا ذلك ولكنهم تبنوا اتجاها ثوريا، وأصبح تيار الإسلام السياسي على أعتاب مرحلة فارقة في تاريخه بتحوله إلى تيار ثوري عقائدي، ولا أحد استطاع في الماضي ولن يستطيع أحد في المستقبل أن ينتصر على تيار كهذا ولكن علينا أن نعيد ترتيب أولوياتنا ونعيد تركيب الصور بما لا يتعارض مع الإطار الفكري المرجعي لتيارات الإسلام السياسي، لنخرج من قوالب الأفكار الإصلاحية إلى قوالب أكثر رحابة ومرونة تحتك بالواقع الحقيقي وليس بالواقع الذي نريده ونثبت ركائز الثورة ونزيدها عمقا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق